«ديّن لا يرد»
لو سددت ديون الآخرين، مهما فعلت لن يتسنى لك تسديد ديونهم، إنهم أثمن ما في العمر، وجودهم لا يضاهيه شيء، وفراقهم لن يعوضه أحد، حتى ولو كان بجوارك أصدق الناس، الدرر التي في قيمتها أغلى من الذهب والألماس، احتضانهم يعني لك أنك آمن، وأيسرك مطمئن، حتى وإن كنت تحمل فوق صدرك ثقل الحياة بأكملها، كن على يقين أن هذا الحضن قادرًا على أن يزيح هذا الثقل، وكأنك ظمآن ووجدت ماءًا باردًا فارتويت.
اسمي ميادة وأعيش بجوار أبي وأمي، وليس لي إخوة أشقاء، لأن والدتي أصيبت بتعب شديد في الرحم بعد ولادتي بفترة وجيزة، وكنت دائمة التذمر من وحدتي هذه، لكن والدي ووالدتي اتخذا مني صديقةً وأختًا لهما، فكانت نقمتي هي منة من الله سبحانه وتعالى أن حظيت بحبهما وحنانهما دون أن يشاركني فيه أحد، كانا دائما لرعايتي وجلب كل ما يجعلني في حبور، حتى الأصدقاء والأقرباء لم يكن في دائرة اهتماماتي أن أتقرب لأحد، فالمشاعر التي يغدقاني بها تكفيني، ولا تجعلني في احتياج لأحد، وفي حديثٍ معهما أرادا أن أنخلع من دائرة اهتماماتي بهما، لتتسع علاقاتي.
ميادة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قالتها ميادة وهي تمر بغرفة والديها طارقة بابهما، لأنها سمعت والدتها تنادي عليها لأمر هام، وأردفت: كيف حال أعظم والدين لي؟
والدة ميادة: الحمد لله غاليتنا، اتخذي مجلسًا بجورانا فأباك يريد أن يتحدث إليك في أمر هام.
ميادة: بأمرك أبي، تأمرني فأطيع دون جدال.
والد ميادة: أنت ابنتنا وصديقتنا ولقد خشينا عليك من الوحدة، ورفقاء السوء أن يدخلوا حياتك فيدمروها ولذلك كنا قريبين منك، لكنك قد أوشكت على حياة مستقلة، ويجب أن يكون لك أصدقاء جدد، ولأننا ولله الحمد أحسننا تنشأتك على الدين والقيم الأخلاقية والإنسانية فلدينا الثقة بأنك سوف تحسنين الاختيار، ولنؤهلك في اختيار شريك الحياة الزوجية فيما بعد، أوشكت على الانتهاء من المرحلة الثانوية، ونحن بجانبك لن نتركك، وهذا موضوع غير قابل للتفاوض.
ميادة: لدي صديقتين من هذه المرحلة، وأقسم بالله لكما أنهما من أصدق الناس الذين حباني الله بهما، نعم الأخوات، أما عن دخول الجامعة بإذن الله فإنه عالم مخيف، أخشى من اختياراتي أن تكون ليست على صواب، أما هاتين الفتاتين فأنا أعرفهما عن قرب.
نظرا لبعضهما قليلًا ثم قالا: ليس هناك ما يخيف، فقط توكلي على الله، وادعيه بنيتي أن يرزقك الصحبة الصالحة، لم نربيك على الخوف إلا من الله سبحانه وتعالى، ولكن وجب على الإنسان أن يكون حذرًا ممن حوله، وأضافا: الآن انسي كل ذلك، وضعي كل تركيزك في دراستك هذه لأنها سنة تحديد مصير، وفقك الله هذا العام، ولكن مهلًا على نفسك صغيرتي فإنا نخاف عليك.
ميادة: وأي جمال وروعة بحياتي أكثر من أنكما والداي، قالتها وهي تحتضنهما.
ميادة: والآن سوف أستعد لحضور الدروس.
والدا ميادة: في رعاية الله وحفظه وأمنه، لا إله إلا الله.
ميادة: محمد رسول الله.
ذهبت ميادة للقاء صديقتها مسك لتذهبا إلى دروسهما، وحينما رأتها ابتسمت لها ابتسامة أضاءت وجهها كالقمر في ليلة الرابع عشر منه قائلة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اشتقت لك كثيرًا، فلنذهب لشرب مشروب بارد فالجو حره شديد اليوم قبيل ميعاد الدرس، وتوقفا عند عصارة قريبة من بيت المقام فيه الدرس، وتناولا المشروب البارد في سرعة، وذهبا معًا لحضور درسهما، وبعد أن انتهى ودعا مدرسهما، وجلست الفتيات تتحدث كل واحدة منهن عن نفسها وعن أهلها، وكانت شهد قد جهزت وجبة سريعة لصديقاتها حتى يحين ميعاد الدرس الثاني، وبالفعل قد صنعت والدة شهد بعض السندويتشات الشهية لهن، ولأول مرة ترى ميادة والدة شهد وتتعرف إليها، وسرت والدة شهد من صديقات ابنتها معلنة: أدعو الله أن تجمعكم نفس الكلية أو الجامعة مثلما كنتن منذ الصغر إلى الآن لا يفرق بينكم شيء.
وأتى ميعاد الدرس الآخر، وكان الشرح جميلًا ووافيًا، وبعد الإنتهاء، قمن بوداع بعضهم البعض، وانصرفا الفتاتين، واقترحت ميادة على مسك أن تزورها في منزلها بعد أن تعلم والديها، لكنها أفصحت أنه لا يوجد وقت وفير للزيارات الآن، بعد الإنتهاء من هذه السنة.
في منزل ميادة، فتحت الباب وألقت السلام على والديها، لكن والدتها أشارت إليها أن والدها نائم، وأن تخفض من صوتها حتى لا تزعجه.
ميادة: في صوت خافت، آسفة يا أمي، كيف حالك؟
والدة ميادة: الحمد لله، هناك طعام شهي، ما رأيك أن تبديل ثيابك، وتقومين بتسخينه.
ميادة: بحب قبلت يدي والدتها، الحمد لله على نعمة وجودك يا أمي.
ومرت الأيام في كلالة من قبل ميادة، وكل طلاب الثانوية العامة، وأتت أيام الامتحانات، وكانت ما بين خفيف كالريشة، ووبيل كالجبل، حتى انتهت، وفكر والدي ميادة أن يتعرفا إلى أهل الفتاتين صديقتا ابنتهما أكثر وينظما رحلة تجمع الأسر ببعضها، وبالفعل قامت ميادة بدعوة صديقاتها، وقاما أهل ميادة بدعوة أهلهما، وكان هناك وليمة عشاء أقيمت للاحتفال بهم، واشتركت فيها ميادة ووالدها ووالدتها سويًا، وكان يومًا مبهجًا للجميع، وانصرف كل منهم على منزله بعد أن وافقوا على إقامة رحلة قصيرة، وكانت والدة شهد تعمل في إحدى الشركات السياحية وقد وعدت بحجز رحلة جميلة لهم، وانطلق الجميع للذهاب للرحلة، وكان أكبر مكافآة للفتيات على جلدهن، وصبرهن، وإخلاصهن لاجتياز هذا العام الدراسي، وقد أضفى هذا اليوم الرائع بسمة على وجه الجميع، وعادوا إلى منازلهم وقد اضطربوا كثيرًا حينما علموا بدنو نتيجة الثانوية العامة.
وكانت النتيجة مرضية للجميع فلقد اجتزن الاختبارات، وكان النجاح مبهر، وانتظرن قليلًا حتى آن موعد التنسيق للجامعات، وكأن دعوة والدة شهد عبرت إلى السماء السابعة، وقر الله عينها بوجود الفتيات في جامعة واحدة، لكن، كل فتاة كان لها حلمها، وكانت الفتيات تحاولن جاهدات أن تتفوق في دراستهن الجامعية.
في السنة الثانية شعرت ميادة بدوار رهيب، ووقعت في الحرم الجامعي مغشيًا عليها، ورآها زميل لها كان يكن لها معزة خاصة، وفي تلهف حملها إلى طبيب الجامعة، ووجد الطبيب ارتفاع في ضغطها، لكنه رأى شحوب ملحوظ في وجهها، وكانت فحوصاتها سيئة جدًا، وسرعان ما مر الوقت والطبيب لا يفهم ماهو سر شحوب وجهها، وقد احتفظ الشاب زميلها بحقيبتها وسمع رنات جوالها، وتردد أن يفتح الحقيبة دون إذنها لكنه فكر لعله يكون أحد من أهلها ويتصل لقلقه عليها، قد مر وقت طويل في الفحوصات، والتقط المحمول الخاص بها وقرأ اسم Best" Friend" واعتقد أنها صديقة مقربة لها، لكن، لازالت رنات الهاتف مستمرة، وقرر أن يجيب المتصلة، وفتح هاتفها، ووجد صوتًا حنونًا يرد: قلب أمك أين أنت، لعلك بخير قرة عين أمك وأبيك، ورد: ألوو، تفاجآت الأم بصوت الشاب مردفة: من أنت؟
وأين ابنتي؟ هل أصابها مكروه لا سمح الله؟
ماذا حدث؟
وأجاب زميلها: مساء الخير، أرجو أن تهدأي قليلًا أمي، ميادة بخير إن شاء الله، لكنها أصيبت بدوار وهي مغادرة للحرم الجامعي مغشيًا عليها، فقاطعته: ابنتي حبيبتي، سآتي على الفور، لكنها لا تعلم أين هي الآن، من ذعرها لم تسأل، وأعادت الإتصال به لتعرف أين هم الآن، ورن الهاتف مرة أخرى، هذه المرة كان الطبيب أعطى لميادة عقار ليخفض من ضغطها، وبدأت تفيق من إغمائها، وتجد نفسها ترقد في سرير في مشفى الجامعة القريبة من الحرم الجامعي، وتجد آسر أمامها مندهشة وتسأله في إعياء شديد: من أنت؟ وأين أنا؟
لكنه، هدأها، لا تقلقي أصبحت بخير، أنا زميلك في الجامعة، أصبت بإغماء، وحملتك إلى طبيب الجامعة، وانتقلنا بك إلى مشفى الجامعة، والدتك هاتفتك من قبل، وتتصل الآن، أجيبيها حتى يطمئن قلبها، وبالفعل ردت على أمها: ألوو بصوت يكسوه التعب، أمي أنا بخير لا تقلقي، وطمئني أبي، لكن أمها طلبت منها تخبرها مكانها، وأردفت: أنا يا أمي بمشفى الجامعة قريب من الجامعة، وأغلقت على الفور، وانتقلت هي وأبيها إليها، وعندما دخلا الحجرة التي استقرت فيها ابنتهما احتضنتها الأم بقوة وحنان مردفة: ماذا أصابك يا قرة عيني؟
ونظر أباها إلى الشاب قائلًا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جزاك الله خيرًا، لن أوفيك حقك مهما حييت بما فعلت مع ابنتي، ونظر إلى ابنته، ماذا بك يا قلب أباك؟ وربت على كتفيها، وميادة تجاهد أن تبتسم في وجه والديها لتهدأتهم مردفة: بخير والحمد لله، لا تقلق أبي بشأني.
وانتقلا إلى الطبيب الذي أقر أنه لديه شكوك حول حالتها المفاجآة، وفحوصاتها السيئة، وأنه يجب أن تحول لطبيب أورام، وبالفعل انتقلا إلى مركز الأورام القريب، في ذعر من الأم والأب، وآسر أيضًا، أنها مصابة بالسرطان في الدم، وهذا يفسر فحوصاتها السيئة، وأنها لازالت لم تتجاوز المرحلة الأولى منه، وأنها سوف تتحسن حالتها الصحية مع العلاج الكيماوي والهرموني، والإشعاعي، ووو..... في نوبة من البكاء الشديد انتابت الوالدين، وحتى آسر الذي لا يعرفها، لكنه أشفق عليها، وعلى والديها، والطبيب طلب منهم أن الحالة النفسية هامة للتخطي، وأن عليها عامل كبير جدًا، وانتقل الطبيب بحديثه الخاص إلى الشاب زميلها بعيدًا عن الأب والأم مقرًا بأنه لن يساندها أحد غيره لأنه من الواضح أنه يكن لها معزة في قلبه، لكن الشاب أشاح بوجهه منكرًا ذلك، لكن الطبيب أردف: حتى وإن كذبت، فقلقك عليها ينم عما في قلبك تجاهها؛ فسكت آسر.
دخل آسر في شجاعة وقوة وكل ما يفكر به مساندة الفتاة التي أحبها دون أن يتحدثا سويًا لعامين من التحاقهما بنفس الجامعة، وقرر أن يعمل على أن تتخطى أزمتها الصحية، ودخل ليتحدث إليها وصرح لها بمشاعره تجاهها، وأنه يرى أنها قوية وستصمد للتصدي لهذا اللعين، انتابتها مشاعر الفرح، والخوف في آنٍ واحد، يالهذا الحظ السيء!
أجد الحب والسند، وأعرف أنني أوشكت نهايتي!
وتجيبه بكل قوة سأنال منه.
وبدأت رحلة العلاج، وآسر وأمها وأبيها لا يفارقنها أبدًا، وآسر يجلب لها كل المحاضرات حتى لا يفوتها شيئًا، حتى صديقاتها مسك، شهد ظلا جانبها، وكانا أوفياء، لكنها كانت تعتصر ألمًا وحينما رأت شعرها يتساقط بغزارة أصيبت بالهلع، وقررت فجأة لا تكمل مشوارها في محاربة مرض السرطان، ودخلت في نوبة من الاكتئاب الشديدة، حتى آسر عنفته قائلة: بمن ستتزوج؟ بمومياء صلعاء؟
اتركني لنهايتي، فلم أعد أصلح لشيء، لا أريد رؤية أحد، في دخول والدتها، واحتضانها لها، باكية: لا أريدك هكذا صديقتي وابنتي، ليس لي سواك، اهدأي، واذكري الله، وأجابت: لا إله إلا الله محمد عبده ورسوله، وبدأت الأم في قراءة القرآن الكريم لها بصوت حنون وهاديء أثناء جلسة الكيماوي، واستغرقت في النوم، وأمها تحتضنها، وتركتها، وخرجت لتلقى آسر في طريقها وقد كادت عيناه لا ترى من شدة البكاء، وربتت الأم على كتفيه قائلة: هي تصون المعروف ولا تنساه، لكنها تعتصر ألمًا، وتعاني من الإكتئاب، هي لا تقصد إهانتك أبدًا، وأنا أقدر ما فعلته لها.. قاطعها قائلًا: أنا أحبها، وأحترمها، وأريدها لي زوجة وشريكة حياة، وسأكون بجوارها ولن أمل حتى يأذن الله بشفائها...وقاطعته الأم قائلة: أحسست ذاك الشعور النبيل منك بني، ووجدا الطبيب المعالج لحالتها يتوجه إلى غرفتها فأوقفوه أن يمر لأنها تخلد للنوم، وقد أقر بأن هناك خبر في حالتها، وتوجها معه إلى مكتبه ليخبرهم بأن هناك ورم ظهر في كلية واحدة وأنها أوشكت أن تدمر، وذلك لأنها أهملت في العلاج فترة، والحل ايجاد متبرع بكلية لها، ولكن يجب أن يكون سليم معافى، وقد أسرع آسر قائلًا: أنا لا أعاني من أي أمراض، أنا أتبرع لها، لكن الطبيب أردف: لابد أن من تطابق الأنسجة مع ميادة، وقاطعه آسر قائلًا: على استعداد للخضوع لأي فحوصات فلنحاول عل كليتي تكون أنسب، وبعد الفحوصات الطبية تبين أنها غير ملائمة لأنسجة ميادة، وحاول الأب أن يقوم بالفحص الطبي لكليته لكنه لم يكن ملائمًا هو الآخر، وبعد فترة بحث عن متبرع دون جدوى، كل ذلك وميادة لا تعلم عن الأمر شيئًا، وأتى اتصال هاتفي لوالد ميادة بأنهم وجدوا متبرع مطابق لأنسجة بدنها دون التفوه باسمه أو شخصيته، ويوم العملية تفاجئ الأب وآسر بعد أن أعطوا المخدر لميادة وتخدرت بالكامل أن والدتها هي المتبرع، وخضعت للتبرع بكليتها بكل حب وتضحية لابنتها عزيزتها التي ليس لها سواها في الكون وزوجها، ألغيرها تتنازل عن جزء من بدنها لتراها معافاة، هي مستعدة للتضحية بحياتها لأجلها، وبدأت تفيق ميادة لتجد نفسها في غرفة وجانبها أبوها، وآسر، وتسأل عن أمها فلا تجدها، هي لم تتركها لحظة منذ أن علمت بمرضها، ويتلعثمون في حروفهم حتى لا تعلم بالأمر، في حديث آسر معها: حمدا لله على سلامتك، لقد تخطيت عمليتك بنجاح والحمد لله، في نظرة امتنان من ميادة قائلة: جزى الله خيرًا المتبرع، أين هو لأشكره، وأزاحت عنها الغطاء محاولة أن تترك سريرها لتشكر المتبرع، في دخول طبيبها: لا لم يحن الوقت بعد، وستقومين بشكره ولكنه هو أيضًا يشعر بالتعب الآن.
وبعد عدة أيام تحسنت حالتها، وحالة والدتها، وقامت الأم بزيارة ابنتها حينما علمت من آسر ووالدها بسؤالها عنها، دخلت غرفتها في حنان قائلة: كيف حالك يا ابنتي؟ الحمد لله قالتها ميادة وهي قلقة مردفة: ماذا بك يا أمي؟
الأم: لا شيء، يبدو أنني أصبت ببرد في المعدة، أحست ميادة أن هناك شيء تخفيه عنها، واستأذنت أمها أنها لابد لها من المغادرة لأنها تشعر بالتعب من البرد الذي أصابها، وظل آسر بجانبها يشرح لها ما فاتها، واستأذنها قليلًا ليتحدث إلى والدها برغبته الشديدة في أن يتقدم للزواج من ميادة، لكن الأب رفض بحجة أن ابنته لازالت مريضة، وأنه لن يقبل أن يظل آسر بجوارها لأنه مشفق عليها، لكنه تعهد أمام الله أنه لا يحب سواها، ولن يأتي يومًا إلا وهو يفكر كيف يجعلها راضية وهانئة، وذهب الأب لغرفة زوجته يتناقش معها في الأمر، ووافقت على الفور قائلة: لن أجد لابنتي رجلًا حنونًا يحميها، ويفكر في راحتها وسعادتها كآسر، لكن؛ فلتسأل عن عائلته، وفي غرفة ميادة راح آسر ليعلن لها رغبته في الزواج منها قبل أن تتعافى، أفصح عن طيب نيته، ولم يكن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيفاجئه بأمر لا يتوقعه أبدًا، لكن ميادة ساومته أن يخبرها بالحقيقة التي يخفونها عنها، ومن المتبرع ولماذا لم تره حتى الآن؟
وقص عليها ماحدث، وحينما علمت انهمرت عيناها من الدموع، وعند سماعها صوت أباها، كففت دموعها في سرعة، وبعد مغادرة أباها بعد الاطمئنان عليها، ومغادرة آسر، ظلت ليلها تصلي وتدعو الله أن يرفع عنها، وأن يمن عليها بالشفاء، ويصرف عن بدنها المرض، وأحست بالذنب في تعب كل من حولها ودعت لأمها أن يمن الله عليها بالشفاء العاجل، وأن يبارك الله لها في صحتها وعافيتها، وباتت ليلتها ودمعاتها قد بللت وسادتها، وكان اليوم هو متابعة فحوصاتها.
صباحًا وكأن أبواب السماء استجابت لطرقها بالدعاء، بعد أن أجرتها جميعها، ظل طبيبها حائر، مذهولًا بالنتائج، وكان يطلب من طبيب زميل له أن يأخذها لمختبر آخر ويطابق بما لديه، وفي النهاية دخل غرفتها، وكانت قد ارتسمت على وجهه ابتسامة أضاءت الدنيا، ويقول: كيف حالك ميادة؟
ميادة: بخير والحمد لله، أراك مبتسمًا ضاحكًا طبيبي الغالي، أهناك ما يغبطني، ويبعث فيَ الأمل من جديد؟
الطبيب المعالج: بل انتهت للأبد كل أيام العناء والشقاء، أراكِ، وقد انتصرت على اللعين، هبت ميادة من مقعدها ومشاعر مختلطة تبدو عليها، كانت تضحك وتبكي، ولكن هذه المرة وهي قريرة العين وتقول: الحمد لله الذي عافانا، الحمد لله على نعمه، الحمد لله الرحيم المجيب لدعوة المضطر، الحمد لله على نعمة الدعاء المبدل للأقدار.
الطبيب المعالج: معجزة قد حدثت أن أرى جميع الفحوصات الطبية الخاصة بك، وقد اختفت منها جميع الخلايا السرطانية، آدام الله عليك العافية.
كانت ميادة تثق في صديقاتها مسك، وشهد وكانت تحكي لهم كل ما يخلد بذهنها، وأحبت أن يكونا أول من ترى بعد رحلة انتصارها على الخبيث، فتحدثت إليهم على الفور بأنها تريد أن تراهم لأنها في حاجة إليهم، وقد تجهزت بارتداء ملابس ملونة جميلة، عليها فراشات، لكن الفتاتان كانتا مضطربتان جدًا، ولكن حينما رأوها هكذا كاد يصيبهم الجنون، ولكنها أخبرتهم أنها تريد أن تذهب إلى مكان جميل بصحبتهم، وأنها لن تخبرهم شيئًا إلا هناك، ذهبت الفتيات إلى حديقة جميلة، وهناك أخرجت من حقيبتها الفحوصات الطبية الأخيرة لها في فرحة، قائلة: لقد كشرت له عن أنيابي، وأشهرت السيف في وجهه، وحاربته بالصبر، ونلت منه.
وبكت الفتاتان فرحًا لها واحتضناها، ولكنهما أخبراها بإن فاتها الكثير، والاختبارات على الأبواب، وبعض الإطمئنان على حالتها الصحية والنفسية، قامت بترك المشفى، وقد قررت أن تفاجيء والداها، لكنهما وبخاها كيف تترك سريرها وغرفتها وهي لازالت في حالة إعياء شديد، وحينما شاهدا فحوصاتها احتضناها ببكاء شديد، وقبلت أيديهما في حنان، ودخلت لتدرك ما فاتها، ولتختبر، وأنجزت ميادة، وكل ذلك وآسر بجانبها لم يتركها لحظة، وأتى يوم نتيجة الاختبارات، وذهبت إلى الجامعة، فوجدت آسر يبشرها بنجاحها وتفوقها قائلًا: لم يكن لدي شك في اجتيازك، بل كنت واثقًا أنك تمتلكين القوة، والإرادة.
والآن عاهديني تتشبث أيدينا، ولا نفترق أبدًا ما حيينا، بكت عيني ميادة قائلة: ما رأيته منك يجعلني أتشبث بك الآتِ من العمر، كنت الوتد الذي أتكأ عليه ولا يمَل، ولا يميل، في محنتي لم تتركني وترحل، أبهذا لا أطمئن؟
آسر: وأنا على عهدي لنهاية العمر.
في منزل ميادة وقد استعدت لحفل خطبتها على ذلك الشاب دمث الخلق، راقي الطباع، وكانت في قمة سعادتها، وبجوارها أمها، وأبيها، وصديقاتها الأوفياء برفقتها، وقبلت يدي والدتها قائلة: لقد علمت كل شيء أمي، لن يتسنى لي أن أوفيك قدرك، وذلك الدين مهما حييت لن أستطيع أن أرده في يوم من الأيام، آدام الله لي عافيتك أنت وأبي.
بقلم/ أسماء صلاح